فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي نهاية المشهد والتكليم يجيء بيان لعاقبة الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، ويعرضون عن آيات الله وتوجيهاته، يتضمن تصويرًا دقيقًا لطبيعة هذا الصنف من الناس، في نصاعة وجمال التصوير القرآني الفريد لأنماط الطبائع ونماذج النفوس:
{سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلًا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلًا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون}..
إن الله تعالى يعلن عن مشيئته في شأن أولئك الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلًا، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلًا.. إنه سيصرفهم عن آياته فلا ينتفعون بها ولا يستجيبون لها.. آياته في كتاب الكون المنظور، وآياته في كتبه المنزلة على رسله.. ذلك بسبب أنهم كذبوا بآياته سبحانه وكانوا عنها غافلين.
وإن هذا النموذج من الناس ليرتسم من خلال الكلمات القرآنية، كأنما نراه بسماته وحركاته!
{الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق}.
وما يتكبر عبد من عبيد الله في أرضه بالحق أبدًا. فالكبرياء صفة الله وحده. لا يقبل فيها شريكًا. وحيثما تكبر إنسان في الأرض كان ذلك تكبرًا بغير الحق! وشر التكبر ادعاء حق الربوبية في الأرض على عباد الله، ومزاولة هذا الحق بالتشريع لهم من دون الله؛ وتعبيدهم لهذا التشريع الباطل، ومن هذا التكبر تنشأ سائر ألوان التكبر. فهو أساس الشر كله ومنه ينبعث. ومن ثم تجيء بقية الملامح:
{وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلًا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلًا}..
فهي جبلة تجنح عن سبيل الرشد حيثما رأته، وتجنح إلى سبيل الغي حيثما لاح لها؛ كأَنما بآلية في تركيبها لا تتخلف! وهذه هي السمة التي يرسمها التعبير، ويطبع بها هذا النموذج المتكبر، الذي قضت مشيئة الله أن يجازيه على التكذيب بآيات الله والغفلة عنها بصرفه عن هذه الآيات أبدًا!
وإن الإنسان ليصادف هذا الصنف من الخلق بوصفه هذا وسمته وملامحه، فيرى كأنما يتجنب الرشد ويتبع الغي دون جهد منه، ودون تفكير ولا تدبير! فهو يعمى عن طريق الرشد ويتجنبه، وينشرح لطريق الغي ويتبعه! وهو في الوقت ذاته مصروف عن آيات الله لا يراها ولا يتدبرها ولا تلتقط أجهزته إيحاءاتها وإيقاعاتها!
وسبحان الله! فمن خلال اللمسات السريعة في العبارة القرآنية العجيبة ينتفض هذا النموذج من الخلق شاخصًا بارزًا حتى ليكاد القارئ يصيح لتوه: نعم. نعم. أعرف هذا الصنف من الخلق.. إنه فلان!!! وإنه للمعنيّ الموصوف بهذه الكلمات!!!
وما يظلم الله هذا الصنف من الخلق بهذا الجزاء المردي المؤدي إلى الهلاك في الدنيا والآخرة.. إنما هو الجزاء الحق لمن يكذب بآيات الله ويغفل عنها، ويتكبر في الأرض بغير الحق، ويتجنب سبيل الرشد حيثما رآه، ويهرع إلى سبيل الغي حيثما لاح له! فإنما بعمله جوزي؛ وبسلوكه أورد موارد الهلاك.
{ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين}..
{والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون}..
وحبوط الأعمال مأخوذ من قولهم: حبطت الناقة.. إذا رعت نباتًا سامًا، فانتفخ بطنها ثم نفقت.. وهو وصف ملحوظ فيه طبيعة الباطل الذي يصدر من المكذبين بآيات الله ولقاء الآخرة. فهو ينتفخ حتى يظنه الناس من عظمة وقوةَ! ثم ينفق كما تنفق الناقة التي رعت ذلك النبات السام!
وإنه لجزاء كذلك حق أن تحبط وتهلك أعمال الذين كذبوا بآيات الله ولقاء الآخرة.. ولكن كيف تحبط هذه الأعمال؟
من ناحية الاعتقاد.. نحن نؤمن بصدق وعيد الله لا محالة؛ أيًا كانت الظواهر التي تخالف هذه العاقبة المحتومة. فحيثما كذب أحد بآيات الله ولقائه في الآخرة حبط عمله وبطل، وهلك في النهاية وذهب كأن لم يكن.
ومن ناحية النظر.. نحن نجد السبب واضحًا في حياة البشر.. إن الذي يكذب بآيات الله المبثوثة في صفحات هذا الكون المنشور، أو آياته المصاحبة للرسالات، أو التي يحملها الرسل؛ ويكذب تبعًا لهذا بلقاء الله في اليوم الآخر.. إن هذا الكائن المسيخ روح ضالة شاردة عن طبيعة هذا الكون المؤمن المسلم ونواميسه.. لا تربطه بهذا الكون رابطة. وهو منقطع عن دوافع الحركة الصادقة الموصولة بغاية الوجود واتجاهه. وكل عمل يصدر عن مثل هذا المسخ المقطوع هو عمل حابط ضائع، ولو بدا أنه قائم وناجح. لأنه لا ينبعث عن البواعث الأصيلة العميقة في بنية هذا الوجود؛ ولا يتجه إلى الغاية الكبيرة التي يتجه إليها الكون كله. شأنه شأن الجدول الذي ينقطع عن النبع الأول؛ فمآله إلى الجفاف والضياع في يوم قريب أو بعيد!
والذين لا يرون العلاقة الوثيقة بين تلك القيم الإيمانية وحركة التاريخ الإنساني؛ والذين يغفلون عن قدر الله الذي يجري بعاقبة الذين يتنكرون لهذه القيم.. هؤلاء إنما هم الغافلون الذين أعلن الله سبحانه عن مشيئته في أمرهم، بصرفهم عن رؤية آياته، وتدبر سننه.. وقدر الله يتربص بهم وهم عنه غافلون..
والذين يخدعهم ما يرونه في الأمد القصير المحدود، من فلاح بعض الذين يغفلون عن تلك القيم الإيمانية ونجاحهم؛ إنما يخدعهم الانتفاخ الذي يصيب الدابة وقد رعت النبت السام؛ فيحسبونه شحمًا وسمنة وعافية وصحة.. والهلاك يترصدها بعد الانتفاخ والحبوط!
والأمم التي خلت شاهد واقع. ولكن الذين سكنوا مساكنهم من بعدهم، لا يأخذون منهم عبرة، ولا يرون سنة الله التي تعمل ولا تتخلف؛ وقدر الله الذي يجري ولا يتوقف.. والله من ورائهم محيط. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {والذين كَذَّبُواْ}.
في خبره وجهان، أحدهما: أنَّهُ الجملةُ من قوله: {حَبِطَتْ أعْمالُهُم} و{هل يُجْزَونَ}- خبر ثان، أو مستأنف والثاني: أنَّ الخبر هَلْ يجزونَ والجملةُ من قوله حَبِطَتْ في محلِّ نصب على الحالِ، وقَدْ مضمرة معه، عند من يشترط ذلك، وصاحبُ الحال فاعلُ كَذَّبُوا.
قوله: {ولقاء الآخرةِ} فيه وجهان، أحدهما: أنَّهُ من باب إضافة المصدر لمفعوله، والفاعل محذوف، والتقديرُ: ولقائهم الآخرة.
والثاني: أنَّهُ من باب إضافة المصدر للظرف يعني: ولقاء ما وعد الله في الآخرة.
ذكرهما الزمخشريُّ.
قال أبُو حيَّان: ولا يُجيز جُلَّةُ النَّحويين الإضافة إلى الظَّرف، لأنَّ الظَّرف على تقدير في، والإضافةُ عندهم على تقدير اللاَّم، أو مِنْ فإن اتُّسِعَ في العَامِل جازَ أن يُنْصبَ الظرفُ نَصْبَ المفعول، ويجوزُ إذْ ذاك أن يُضافَ مصدرُه إلى ذلك الظَّرف المُتِّسَع في عاملِهِ، وأجازَ بعضً النَّحويين أن تكون الإضافةُ على تقدر في كما يفهِمُ ظاهرُ كلام الزمخشري.
قوله: {هَلْ يَجْزوْنَ}.
هذا الاستفهامُ معناه النَّفي، لذلك دخلت: {إلاَّ} ولو كان معناه التقرير لكان مُوجبًا، فيبعدُ دخول إلاَّ أو يمتنع.
وقال الواحديُّ هنا: لابد من تقدير محذوفٍ أي: إلا بِمَا كانُوا أو على ما كانُوا، أو جزاء ما كانوا وتقريره: أنَّ نفس ما كانوا يعملونه لا يُجْزونَهُ إنَّمَا يُجْزَوْنَ بمقابلة. اهـ. باختصار.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
تبيَّن بهذا أنه لا يكفي شهودُ الحقِّ حقًا وشهودُ الباطلِ باطلًا بل لابد من شهود الحق من وجود التوفيق للحق، ومنع شهود الباطل من وجود العصمة من اتباع الباطل.
ويقال إِنَّ الجاحِدَ للحقِّ- مع تحققه به- أقبحُ حالةً من الجاهل به المُقصِّرِ في تعريفه. اهـ.